Wednesday, 13 January 2010

وامعتصماه .. (قصة واقعية من مذكراتي الخاصة) الجزء الثاني ..

الإنسان ..

ذلك المخلوق الضعيف ..

ما وضعته أمه سوى ليعاني ..

وعندما يستريح

تبدأ هي في المعاناة ..



كان ذلك المسكين في أول يومٍ له في ذلك العمل

تقطعت به السبل في ذلك الموت الاقتصادي البطيء ..

كما تقطعت بالكثيرين من قبله ..

فاضطر إلى ما اضطررنا إليه من ذلك الهلاك

ليس منا من يحب ذلك العمل
وهذه حقيقة ..

فالمخاطرة فيه أكبر من أن يتم تلافيها

والخطأ فيه لا يعني سوى الموت المحقق

مدفوناً تحت الرمال

أو مختنقاً بالغازات السامة ..

قد لا يكون الخطأ خطأنا

ولكن دفع الأثمان هنا صنيعنا



كانت الهزات المتتابعة عنيفة على إثر سقوط القنابل الارتجاجية ..

وكان وضع النفق لا ينبئ سوى بانهياره في أية لحظة ..



ولكن لا ..

لم يكن بإمكاني التوقف بعد أن دنوت إلى هذا الحد ..

وصورة تلك المتلهفة المسكينة لا تفارقني

وهي التي لا تنتظر من الحياة سوى رؤية وحيدها

ولآخر مرة ..


" معتصم

يا زلمة احكي معي " ...

لم أكن في حالةٍ تسمح لي بالنطق فتابع بصوتٍ هادئ رغم شدة الموقف

" الشاب الحين بين يدي ربه
وما بيفيده ولا بيفيدنا إنا نندفن معه " ..


" وعلى أي حال أنا معك كيف ما بيصير "

كان كلامه بمثابة المخدر الذي سرى في يداي فأوقفهما عن الحركة

وأحسست بعجزٍ لم أشعر به من قبل وأنا أجاهد للخروج وسط العقبات المستجدة ..

و ..
كتب لي أن أرى النهار الغائم من جديد ..



كان المشهد الخارجي قد ازداد سوءاً ..

وشد انتباهي في تلك اللحظة تجمع الكثيرين على الجانب الغربي من ممر صلاح الدين (فيلادلفيا) ..



وهذا أبعد ما يكون عن الفطنة في يومٍٍ كهذا ..

لم أكن قد انتبهت بعد إلى تلك الانهيارات في السور المصري ..

لكنني اقتنعت تماماً أنهم لن يقدموا على الاقتراب من هناك إلا إذا حدث شيء كبير



ميزت صديقي أدهم ببينهم فلم أتردد في الانطلاق إليه ..

وصح ظني عندما علمت أن قصف المقاتلات في المرةِ الأخيرة قد تسبب في تهدم أجزاء من السور المصري ..

ولم يكن صعباً استنتاج الباقي ..

فالشباب والأطفال كعادتهم قد توجهوا بآلية إلى المكان المنكوب

وما زاد الأمر سوءاً أن جموع الأمن المركزي المصري قد تمركزت في ذلك المكان

لا يفصلنا عنهم سوى السور المتهدم

مما قد ينذر بوقوع كارثة

فقط يفقد أحدٌ ما أعصابه وستحدث لا محالة ..



و لكن وعلى غير انتظار

حدث ما هو أسوأ ..



فمجموعة المقاتلات برزت فجأة لقصف الممر

مع امتلائه بمئات الشباب والأطفال

وقربهم من الجانب المصري

إضافة إلى سرعة اقتراب المقاتلات ..

تجعل من المستحيل وصولهم للجانب الفلسطيني أحياء

سواء أحاولوا العودة أو بقوا في أماكنهم

و على الجانب المصري القريب ..

يقف جنود الأمن المركزي بأسلحتهم ..

في وضعية الاستعداد ..

القصوى ..

Saturday, 9 January 2010

وامعتصماه .. (قصة واقعية من مذكراتي الخاصة) الجزء الأول ..


لم يكن أبداً بالهدف القصي ، رغم كل العوائق والظروف والملابسات التي لا تخفى عنكم فضلاً عنَّا ..

رغم كل شيء لم يكن قصياً ..

لم نكن نشغل بالنا بالمقارنات الساذجة عن موازين القوى وإمكانات الارتقاء أو الصمود ؛ فكلها تفاهات وترهات بالنسبة لمن أجبر على الصمود والتحدي كبديلين عن الخيانة أو الهلاك .. ربما هو الوضع الذي لم يسمح بالاختيار .. وقدرات البشر على التأقلم هي ما وضعتنا على سفح الصمود .. وإيماننا هو ما طفى بنا فوق لجات التخلي والتخاذل ..

واليوم ..

هو يوم تقييم كل شيء ..

هو ذلك اليوم الذي يوضع فيه معدنك على مطرقة الاختبار فيهوي عليه سندان الواقع دون اعتبارٍ لنداءات التخاذل الكاذبة ..
لم يكن يوم القيامة على كل حال؛ رغم تأكيدات بعض حالميهم على أنه هو ..

ذلك اليوم لم يكن كباقي الأيام ..

بعد أن تغيرت معالم ذلك المكان بشكلٍ شبه تام .. وبعد أن هدأت أصوات الانفجارات وطلعات الجو لبرهة ؛ كان مسئول العمال يشير لي بالمجيء بينما كنا واقفين لمعاينة حجم الأضرار بذلك النفق الذي لم نكن قد أتممنا بناءه بعد ..

للوهلة الأولى لم أفهم سبب بكاء تلك العجوز لكن بعد لحظات فهمت من نحيبها أنها أم زياد الذي سقط أحد الأنفاق وهو بداخله مع بداية القصف منذ أيامٍ ثلاثة ..

"ما بنعرف نعمل إيشي يا حاجة ، الزلمة صار له الحين 3 أيام وإخراج جثمانه بيحتاج وإت ومستحيل حدن بيجرؤ يدخل للنفق الحين " .. لم يكن كلام الرجل معها مهدئاً لشلال البكاء والنواح على أي حال ولم أعرف كيف وجدت نفسي مجبراً داخلياً على التقدم لهذا العمل في هذه اللحظة رغم التأكيد على أن عودة قصف الممر الفاصل بعد أقل من نصف ساعة .. و ..

" شيخ محمد ..
بنزل الحين لجثمان زياد أشوف إن كنت بعرف أسوي ايشي واطلعو " ..

لم أتوقع للحظة أن يناقشني ذلك الشاب في أمرٍ كهذا، ولم أتفاجأ حينما قام لتجهيز أدواته بمجرد سماعه لجملتي ..
" بيعين الله .." ..

لم يكن الوضع داخل النفق حينها جيداً بأي شكل .. فالنفق حتى لم يكن قد اكتمل إنشاؤه عندما انهار وسطه .. ومن هنا ضاعت 5 دقائق كاملة في محاولة الوصول عبر أجزاءه الأمامية المتهدمة .. وخمس دقائق أخرى في إزاحة الرمال الناعمة عبثاً عن المحيط المطلوب .. فأحياناً ما كان يسقط أكثر مما تتم ازاحته خصوصاً مع تعجلي في الحفر ..

ومع نهاية الدقائق الخمس التالية .. لمست قدم الشاب .. و .. لم أشعر وقتها بتلك البرودة التي سرت في يدي جراء ملمسها بقدر ما شعرت بدنو الخطر في تلك اللحظة بالذات .. ربما ذلك أو ربما إحساسي بدنو الهدف هو ما دفعني لجذب الجثة من قدمها حتى ينتهي ذلك الموقف متفاجئاً بها بين يدي فتركيزي في هذه اللحظة كان ينصب على الوقت الذي لم يتبقى منه سوى نصفه و بووووووووووووووووووووووووووووووووم

اجبرنتي كمية الأتربة المتساقطة على إغماض عيني للحظة قبل أن ألتفت لوجه الشيخ محمد على ضوء مشعله المتراقص .. و ..

يبدو أن الطلعة الجوية قد عادت ..

قبل وقتها ..

بربع ساعةٍ كاملة ..